حسابات «تويترية» موجهة وأخرى «حركية» داعمة
تركي التركي من الرياض
يحظى رئيس وزراء تركيا أردوغان، بشعبية خليجية وسعودية ملحوظة. ومن المواقف التي لفتت لهذه الشعبية ما حصل من هجوم تجاه مدير جامعة الإمام محمد بن سعود، الدكتور سليمان أبا الخيل، من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، لأنه انتقد بشكل مباشر سياسة أردوغان. وبحسب البعض، فإن موقف أبا الخيل من أردوغان متسق، على الأقل، مع ما يعتقده كشيخ محافظ. لكن السؤال، كيف تجتمع هذه الشعبية والاستماتة في الدفاع عن أردوغان من قبل إسلاميين محافظين، يوصف الكثير منهم بالتشدد، وأردوغان الذي يحكم وفقا لدستور علماني متحرر؟
يُفسّر بعض المناصرين لأردوغان، هذا الولع، بما تحمله له الذاكرة العربية والإسلامية من مواقف سياسية “مشرفة” تجاه غزة. فيما يرى البعض الآخر أن لشخصيته العملية والمعادية لـ “الفساد”، التي ارتقت، باقتصاد تركيا، كل الفضل في خلق هذه الكاريزما. ورغم هذه التفسيرات الإيجابية، إلا أن مواقفه الأخيرة من أحداث ميدان “تقسيم” ثم التسريبات التي تُلمح لقضايا فساد، طالته وابنه بلال. وردة فعله “القمعية”، بحسب منتقديه، بحجب تويتر واليوتيوب، التي نسبت للقضاء بعد شكوى من متضررين، إضافة إلى التطبيع المُتوقع مع إسرائيل؛ كلها لم تؤثر في شعبيته عربيا وخليجيا، بل أمكن استثمارها إعلاميا، بحسب بعض المراقبين، لإبراز شخصية القائد الحازم.
وهذا ما يؤكد، بحسب كثير من الإعلاميين، قوة “الدعاية الإعلامية “البروباغندا”، التي يملكها أردوغان، فإمكانية استثمار الزلات وقضايا فساد من هذا النوع، لخلق مزيد من الدعم والتأييد، لا يمكن أن يكون، دون ذراع إعلامية تبرر وتوجه. وهذا ما كان معروفًا، بالنسبة للإخوان المسلمين عموما، ولأردوغان خصوصا كرمز، في ظل القوة الإعلامية لخطاب قناة الجزيرة القطرية، التي روجت لـ “نزاهة” أرودغان ــ النموذج، ومشاريعه التنموية منذ أن كان عمدة لإسطنبول.
ولكن في ظل تراجع تأثير قناة الجزيرة، الملحوظ، ومع استمرار الشعبية، فإن هذه الدعاية وقوتها تبقى مثار سؤال يحتاج إلى رصد ومتابعة. وهذه المتابعة، بالضرورة، لن تنفصل عن الحيز ذي التأثير الواضح؛ أي مواقع التواصل الاجتماعي، وتحديدًا، تويتر. مع الأخذ في الاعتبار طبيعة الشريحة المستهدفة.
ضرورة الرصد تستلزم، التعريف، أولا، بـ “الدعاية الإعلامية”، حيث يُعرفها المختصون بأنها: “محاولة إعلامية للتأثير في اتجاهات الناس وآرائهم وسلوكهم، ووسيلتها نشر معلومات وحقائق أو أنصاف حقائق أو حتى أكاذيب في محاولة منظمة للتأثير في الرأي العام. فهي عملية تلاعب بالعواطف والمشاعر يقصد بها الوصول لإيجاد حالة من حالات التوتر الفكري والشحن العاطفي”.
وبرصد هذه الدعاية، زمنيًا، من الممكن إدراك أنه منذ ذروة التغطية الإعلامية، لما عُرف بثورات الربيع العربي، ومواقع التواصل الاجتماعي، ومنها تويتر، تشهد توافدًا لأسماء معروفة بتوجهاتها الدعائية، الإخوانية عموما والأردوغانية خصوصًا، التي لم تكن تظهر إلا على القنوات الفضائية. لترافق الشباب وتشاركهم “ثورتهم الافتراضية”، بكثير من التحليل والتشجيع، وهنا بدأ، بحسب متابعين، إدراك أهمية هذه المواقع، وقوة تأثيرها، حيث رُوج لها باعتبارها إعلاما جديدًا أو بديلا.
أما رصد الحسابات التي يمكن ملاحظة دعايتها الأردوغانية الموجهة، فيشير إلى أنها تنقسم إلى قسمين؛ قسم تركي يجيد العربية، وقسم ثان عربي وخليجي، لأكاديميين ودعاة ومحللين سياسيين، يُحيلون كثيرًا على هذه الحسابات التركية، ويعيدون تغريداتها، بشكل ملحوظ. فمن أشهر الحسابات التي يُشار إليها، كجزء من منظومة دعائية، حساب “شؤون تركية”، وهو حساب يغطي الشؤون التركية والأردوغانية، تحديدًا، من وجهة نظر صحف، مثل “يني شفق”، و”آكشام” و”صباح” وغيرها من الصحف المحسوبة على الحزب الحاكم، كما يلاحظ أن طبيعة المواضيع المختارة، لا تعبر إلا عن الوجه الإسلامي المحافظ لتركيا، وإنجازات أردوغان، سواء كان ذلك من جهة السياحة أو التوصيات البرلمانية المقترحة، متجاهلة الكثير من صحف وقضايا المعارضة وشكواها، إضافة إلى تجاهل الجانب الاجتماعي العلماني، الذي لا يقل، في حضوره عن الوجه الآخر المحافظ، خصوصًا في المدن والحواضر.
وهناك، أيضًا، حساب آخر، يمثل جزءًا مهمًا من هذه الدعاية، حيث تتم الإحالة إليه وإعادة تغريداته بشكل متكرر، من قبل بعض الحسابات المشهورة؛ ما يوحي بأنه جزء من منظومة. الحساب تحت اسم “سلجوقي”، ومن الاسم يتضح وجود إسقاط على الدولة السلجوقية التي عرفت كسلالة تركية حكمت في أفغانستان وإيران وأجزاء من الأناضول وسورية والعراق والجزيرة العربية ما بين 1038 و1157.
والإسقاط هنا ليس ببعيد عن مجمل تغريدات هذا الحساب التي تختص بمحاولة إعادة الحنين والتطلع لفترة عثمانية “سنية”، من خلال كثير من الصور التاريخية التي تخاطب عاطفة أممية إسلامية. وهي العاطفة الإيحائية ذاتها التي لا تخلو منها خطابات أردوغان الخارجية الموجهة للمسلمين تحديدًا. إضافة إلى صور أخرى، في المقابل، تشكو من معارضي أردوغان الذين لا رغبة لهم إلا “الإفطار في رمضان وشرب الخمور”، بحسب هذه التغريدات.
وهذه الحسابات لا يمكن لها العمل دون نُخب ومحتوى، يأتي أغلبه من مواقع إلكترونية ومقالات وتحليلات سياسية تتفاعل مع الحدث، بل تقوده. وهنا يأتي دور حسابات كحساب التركي إسماعيل ياشا. الذي درس وعاش في السعودية، ثم لا يرى ضيرًا من تغريدة في شكل سؤال استفزازي، مقصود دعائيًا، لخلق “توتر فكري” و”شحن عاطفي”: “إذا وقعت معركة بين تركيا والسعودية فمع أيهما ستقف الشعوب المسلمة؟”.
وكأن هذا السؤال جزء من مراهنة الكاتب على “العشق الخليجي لأردوغان” النموذج بحسب عنوان مقاله المنشور في صحيفة” العرب” القطرية. هذا فضلا عن مقالات في مجملها موجهة لإزالة أي شك قد يطول شخص أردوغان، سواء كان هذا التشكيك قادم من داخل تركيا، من معارضي تقسيم وجماعة كولن أو من خارجها إذ اعتبرت منظمة “مراسلون بلا حدود” تركيا في فترة حكم أردوغان “أكبر سجن للصحافيين في العالم”. الكاتب الآخر الذي كان يبدو للكثير من الشباب السعودي، محايدًا ومؤثرًا، وخصوصًا، المهتم منهم بالسياسة، هو الباحث والمحلل السياسي اللبناني علي حسين باكير. وهو على غرار “ياشا” استُكتِب في كثير من الصحف السعودية. لكنه فاجأ البعض بتحليله السياسي الموجه أخيرا، بعكس ما اعتاده متابعوه. فباكير الذي يعمل اليوم في مركز أبحاث ودراسات تركي، إضافة إلى كتابته في صحيفة العرب القطرية، كان “مميزًا” بالنسبة لمعجبيه في “السيناريوهات” السياسية الموضوعية التي كان يفترضها. لكن هذا الإعجاب ما لبث أن خفت، بمجرد تغير المعطيات السياسية وتحالفاتها على أرض الواقع، بما لا يتفق ورؤية الإخوان المسلمين وأردوغان. ليتضح الفرق، بحسب بعض المراقبين السياسيين، بين من يُحلل من أجل فرض سيناريوهات تُوجهها دعاية سياسية محددة سلفًا، وبين من يحلل وفقا لمعطيات منهجية وواقعية.
وهناك حساب آخر، لا يبتعد كثيرًا عن هذه المنظومة، لكنه بحسب المراقبين، أكثر تركيزا. فهو يستهدف الشريحة “السعودية” المستثمرة والمستهلكة. حساب يسميه البعض حساب أبو متعب التركي، إشارة إلى أبو متعب الأمريكي الذي سبق أن استضافه التركي في إسطنبول ليثني على السياحة فيها. فيما يبدو كأنه إدراك سابق ومدروس للتشابه بينهما إن لم يكن استثمارا للفكرة ذاتها. حيث أبو متعب الأمريكي لا يختلف عنه في إجادة اللهجة المحلية السعودية ويحاول من خلالها التقرب والتحبب إلى السعوديين الذين ارتفع عددهم كسياح لتركيا هذا العام بنسبة 40 في المائة، حيث تشير الإحصائيات التركية إلى أن نحو 56 ألف سعودي زاروا تركيا خلال الأشهر الثلاثة الماضية.
يُذكر أن حساب طه التركي يجمع ما بين التغني بمحاسن تركيا وأجوائها السياحية “المحافظة” والخلابة، والتغني بحكم أردوغان ــ النموذج. فتغريداته لا تكاد تخلو من عبارتي” تركيا قبل أردوغان” أو “تركيا بعد أردوغان” من حيث عدد المطارات أو نوعية الخدمات والتسهيلات. ومن الملاحظ في هذا الحساب تجاهل كل ما قد “يخدش” مشاعر السائح السعودي المحافظ، مع الاستعداد لتقديم كل الإجابات حول السكن أو التأشيرة أو الفرص الاستثمارية المتاحة، إضافة إلى مشاركة المتابعين السخرية والتساؤلات غير البريئة حول الخدمات السياحية السعودية المحلية. بطريقة دعائية إيحائية مقارنة تذكر بسؤال ياشا السابق ذكره. هذه الأسماء التي تكاد تكون مجهولة في تركيا، كما تؤكد ذلك مصادر تركية، لم يكن لها أن تكون معروفة خارجها أيضًا لو لم يتوافر لها دعم من حسابات أخرى معروفة عربيًا وخليجيا. لتتم الإحالة إليها من باب “أهل مكة أدرى بشعابها”، ما يضيف لها مصداقية هي في أمس الحاجة إليها، من قِبل حسابات شهيرة لدعاة وشباب وأكاديميين ومثقفين معروفين؛ منهم من يعلم، بحكم انتمائه الحزبي، أن هذه الحسابات جزء من منظومة دعائية ومنهم من لا يعلم، ولكنه كغيره أصبح مفتونًا بالتجربة الأردوغانية.
ومثل هذه التشكيلات والتحالفات، القريبة البعيدة، التي تعلم والتي لا تعلم، تصبح هي ميزة “أدوات الإعلام الجديد” كشبكة دعائية مؤثرة وكقناع لتوجهات مقصودة تظهر بأسماء شخصية مستقلة. وهنا تتجلى “الدعاية السوداء”، بحسب المختصين في الإعلام، في أوضح صورها. فالكاتب والإعلامي السعودي جمال خاشقجي، مثلا، في وقت سابق، يُحيل متابعيه لتغريدة طه التركي التي ينفي فيها حجب تويتر، لتخفيف الاحتقان حينها، في وقت كل وكالات العالم والناشطين الأتراك يؤكدون فيه هذا الحجب؛ مما يجعل الكثيرين يتناقلون خبر الحجب وكأنه إشاعة مغرضة.
وهو أيضًا ما يتكرر ولكن بصيغ مختلفة حين يستخدم الأكاديمي السعودي أحمد بن سعيد، أو محمد الحضيف، صورًا وأخبارًا تمجد أفعال أردوغان، وتشنع منتقديه، من صحف وقنوات وأشخاص، مع كثير من المقارنة المقصودة دعائيا، إضافة إلى التكلف البلاغي واللغوي لتصبح أكثر تأثيرًا. هذا فضلا عن كلمات من نوع “صديقي” أو “زميلي” التي تسبق التعريف ببعض الكتاب وحساباتهم ومقالاتهم، من قبل معرفات سعودية وخليجية معروفة وموثوقة، مما يضفي الكثير من المصداقية على هذه الدعاية عمومًا؛ مصداقية قد لا يدرك البعض خطورتها، ولكنها بحسب المختصين إعلاميا، لا تعفي أحدًا من المسؤولية الأخلاقية والمهنية.
كان هذا رصدًا سريعًا لحسابات تجمع بين السياسة الموجهة، والاقتصاد والسياحة الموجهة، تعمل مستهدفة شرائح وتوجهات خليجية وسعودية مختلفة. وبحسب بعض المحللين السياسيين فإنه لم تكن لتظهر مفارقات هذه الدعاية لو أنه لم تختلف المعطيات السياسية على أرض الواقع. لذلك هي، أو غيرها، كانت ولا تزال قادرة على إحداث توتر فكري وشحن عاطفي “بروباغندا” يخلق رأيا “تويتريا”، على الأقل، يصب في مصلحة “أردوغان”؛ من حيث انتعاش الاقتصاد التركي “السياحة والاستثمار” الأمر الذي يُراهن عليه أردوغان للبقاء كزعيم فترة أطول. ومن حيث السياسة السلطة التي ستوفر له الغطاء لبذل مزيد من الصفقات السياسية والاقتصادية بالمنطق ذاته.
المُلاحَظ هو استمرار هذا العمل الدعائي مع إضراره بسياسات واقتصادات دول وشعوب أخرى، منها السعودية، التي ترى مصلحتها في سياسات وتوجهات مختلفة. فـ “خليفة المسلمين” أو “النموذج”، الذي تراهن عليه هذه الدعاية الإعلامية السياسية، يجب أن تكون سياسته هي القدوة لأي سياسة أخرى، بما فيها سياسة رئيس دولته “عبد الله غل”. وهذا ما كشفت عنه هذه الدعاية، التي وقفت مع أردوغان، ضمنًا، حتى في مواجهاته ضد حزبه وضد رئيسه الذين اختلفوا معه، من الداخل، في مواقف كثيرة انتهجها أخيرًا. لتؤكد هذه “المنظومة الدعائية”، ما كتبه الكثيرون، حولها وأنها تعمل، خارجيا، لحساب شخص وليس لحساب مؤسسة أو دولة.