اخبار عالميةرئيسي

ماذا فعل التضخم بذوي الدخل المحدود في تركيا؟

“لا تعكس أرقام التضخم في تركيا المشهد المعيشي في البلاد، إذ هناك فرقٌ بين من يقرأ البيانات من على الشاشة ومن يعيشها ويصارعها على الواقع”، حسب كلمات سامت، وهو صاحب أحد المحال التجارية في حي الفاتح بمدينة إسطنبول.

واعتاد الشاب التركي، منذ أشهر، على تعديل نشرات أسعار السلع الموجودة في محله، لكن باتجاه “تصاعدي لا هبوطي”، وتوقع في حديثٍ لموقع “الحرة” أن يستمر الخوض في هذه “الدوامة” في المرحلة المقبلة، خاصة مع موجة الضرائب الجديدة التي تم فرضها، قبل أيام.

ويضع الفريق الاقتصادي الجديد، الذي عيّنه الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، “خفض معدلات التضخم” في مقدمة الأهداف التي يسعى لتحقيقها في المرحلة المقبلة. ومع ذلك يرى خبراء وباحثو اقتصاد أن “العلاج سيكون قاسيا وسيثقل معيشة صغار الكسبة (أصحاب الدخل المحدود) بالتحديد”.

ويشير إلى ذلك الشاب التركي بقوله إن “ذوي الدخل المنخفض في البلاد، ومن بينهم المتقاعدون هم الأكثر تضررا بالمشهد الاقتصادي الحالي”، وأن “هؤلاء باتوا يواجهون معادلة قاسية، تتعلق بمرتبٍ شهري يكاد يسد الاحتياجات اليومية فقط، بعيدا عن الرفاهية”.

وكانت الصحيفة الرسمية في تركيا أعلنت، الأسبوع الماضي، زيادة ضريبة القيمة المضافة نقطتين مئويتين في فئتين، كما زادت الضريبة المفروضة على القروض المصرفية الشخصية.

وأوردت الصحيفة أن ضريبة القيمة المضافة على السلع والخدمات زادت إلى 20 بالمئة من 18 بالمئة، كما ارتفعت الضريبة على سلع أساسية مثل المناشف الورقية والمنظفات والحفاضات إلى 10 بالمئة من ثمانية بالمئة.

وفي غضون ذلك وقّع إردوغان على زيادة ضريبة التأمين والمعاملات المصرفية التي تنطبق على القروض الشخصية إلى 15 بالمئة من عشرة بالمئة، وأظهر أحد القرارات أن رسوم تسجيل الهواتف المحمولة التي يتم إحضارها من الخارج زادت 228 بالمئة إلى 20 ألف ليرة (765.74 دولار) من 6091 ليرة.

وقررت تركيا أيضا إعفاء مدفوعات توزيعات الأرباح عن أسهم الخزينة التي تشتريها الشركات المدرجة في بورصة إسطنبول من ضريبة الاستقطاع، وجاء ذلك بعد أيام من طرح مشروع في البرلمان يهدف لرفع الضريبة على الشركات إلى 25 بالمئة، لأغراض تمويل احتياجات تتعلق بالتعافي من أثر زلزال فبراير المدمّر.

“حياة مليئة بالتضخم”

ومنذ أشهر بات مشهد ارتفاع الأسعار في تركيا مسلسلا يوميا يعيشه المواطنون في البلاد. ولم يقتصر هذا الحال على سلعة دون غيرها، بل ضرب جميع قطاعات البلاد، وتأثّر منه المواطنون والمقيمين الأجانب.

ويعتبر متجر “بيم bim” أكثر الوجهات التي يقصدها المواطنون الأتراك لشراء متطلباتهم، نظرا للأسعار المقبولة التي يخصصها لبيع المنتجات الغذائية، لكن هذا الأمر بات يختلف بشكل جذري عن السابق.

وكانت “100 ليرة تركية تشتري الكثير من المتجر المذكور قبل 5 سنوات، لكن اليوم لا يمكن الخروج بها إلا بكيس يحتوي على بضعة قطع من البسكويت”، حسب الشاب التركي سامت، وكذلك الأمر بالنسبة للاجئ السوري المقيم في إسطنبول، عمار لبابيدي.

ويعيش عمار مع عائلته المكونة من 4 أفراد “حياة مليئة بالتضخم”، حسب تعبيره، ويواجه الآن خطرا يتعلق بخروجه من منزله بعدما أبلغه المالك بذلك، قبل أيام، موضحا أن أقل ثمن إيجار منزل جديد في إسطنبول بات يساوي 20 ألف ليرة تركية في الشهر الواحد.

ويفوق الرقم المذكور قدرة الشاب السوري على تحمل ذلك، لاسيما أن مرتبه الشهري في معمل صنع الأحذية بحي أفجلار لا يتجاوز 17 ألف ليرة في الشهر.

ويتابع: “قد اضطر إلى تغيير عملي ومكان سكني. الحياة في إسطنبول لم تعد ممكنة وينسحب ذلك على بعض الولايات أيضا”.

وكان الحد الأعلى لإيجار منزل من غرفتين وصالة في إسطنبول قبل خمس سنوات يتراوح ما بين 2000 و3000 آلاف ليرة تركية، لكن في الوقت الحالي بات الرقم يتجاوز حاجز 20 ألف في الشهر الواحد.

وكذلك الأمر بالنسبة للسيارات، إذ حلقت أسعارها على نحو كبير، منذ بداية عام 2023، لتتجاوز الفئة المتوسطة منها حاجز 750 ألف ليرة تركية، بعدما كانت في السابق ضمن حدود 400 ألف.

ورغم تباطؤ التضخم في تركيا خلال يونيو مسجلا 38.2 بالمئة كمعدل سنوي في أدنى مستوى له منذ 18 شهرا، إلا أنه صعد شهريا إلى 3.92 بالمئة الشهر الماضي.

ويتوقع محللون أن يرتفع التضخم أكثر في يوليو، متأثرا بتراجع سعر صرف الليرة التركية، التي فقدت 23 بالمئة من قيمتها في مقابل الدولار منذ نهاية مايو الماضي.

ومن جانبه يعتقد رجل الأعمال التركي، علاء الدين شنكولر، أن الضرائب الأخيرة التي تم رفعها من جانب الحكومة “ستكون مؤثرة سلبا في ارتفاع الأسعار بشكل عام”.

ويقول لموقع “الحرة”: “سينعكس تأثيرها على قدرة الشعب التركي في الشراء من أفقر إنسان إلى الأغنى”.

“الحكومة أعطت شعبها بملعقة والآن بدأت تجمع بملعقة أخرى كبيرة. هذه الدورة نراها حاضرة منذ تأسيس الجمهورية”.

ويضيف شنكولر أن “الحكومة تحاول في الوقت الحالي أن تعيد التوازن إلى ميزانية الدولة من خلال رفع الضرائب”، وأن “هذه المرحلة غير معروفة المدة وقد تكون قصيرة أو في نطاق من سنة أشهر إلى سنة”.

“صغار الكسبة الأكثر تضررا”

وكان وزير المالية محمد شيمشك قد صرّح بعد رفع الضرائب أنه “سيتم إعادة فرض الانضباط المالي، من خلال السيطرة على عجز المالية”.

وأعلن شيمشك أنهم يتوقعون أن تصل نفقات الزلازل التي حدثت في كهرمان مرعش في 6 فبراير إلى 761.7 مليار ليرة، وأن نسبة هذه النفقات إلى الدخل القومي بلغت 3.1 بالمئة.

وأضاف: “سندعم مكافحة البنك المركزي للتضخم من خلال تعزيز الانسجام بين السياسة النقدية والسياسة المالية. كما سنخفض علاوة المخاطرة لبلدنا من خلال اتخاذ خطوات لتقليل عجز الحساب الجاري”.

وشيمشك والمحافظ الجديد للمصرف المركزي، حفيظة إركان، يقفان على رأس الفريق الاقتصادي الجديد الموكل بخفض نسب التضخم، بعد الانتخابات التي انتهت بفوز إردوغان بولاية رئاسية ثالثة.

وبينما أعلن وزير المالية المعين حديثا عن سلسلة خطوات اقتصادية تستهدف السياسة الداخلية، كان لافتا خلال الأيام الماضية رحلاته ذات “النفس الاستثماري” التي بدأها إلى الإمارات وقطر، قبل زيارة مقررة لإردوغان في السابع عشر من يوليو الحالي.

ويوضح الباحث الاقتصادي، الدكتور مخلص الناظر، أن “طبيعة الضرائب التي تم فرضها هي عادة التي تكافح التضخم”.

والهدف الأساسي منها “زيادة إيرادات الدولة بسبب عجز الموازنة”، إذ يوضح الباحث أن “الحكومة بحاجة لإيرادات، وأول بند لتسكير العجز هو فرض الضرائب”.

ويتوقع الناظر في حديث لموقع “الحرة” أن تتجه الحكومة إلى رفع آخر للضرائب، لكن ضمن مسار تدريجي، و”خوفا من أي ردة فعل قبل موعد الانتخابات المحلية”.

“بسبب التحفظ الخاص بإردوغان على رفع الفائدة يبدو أن الحكومة قررت محاربة التضخم من خلال جانب مالي أي ما يسمى بقتل الطلب”.

ويشرح الباحث حديثه بالقول: “بمعنى يتم رفع الأسعار بطريقة تنهي الطلب الفعال عليها، وبحيث لا يتمكن الناس من شرائها”. وبمعنى آخر “توجيه الاستهلاك إلى السلع الأساسية بعيدا عن الخدمات والترفيه”.

ويشير أستاذ الإدارة المالية في جامعة “باشاك شهير”، الدكتور فراس شعبو إلى أن “فترات التضخم المتلاحقة تضرب بشكل أساسي ذوي الدخل غير المرن، مثل الموظفين وصغار الكسبة (أصحاب الدخل المحدود)”.

وهؤلاء “لا تتغير مداخيلهم الشهرية مع تغيّر أسعار المواد”.

ويقول شعبو لموقع “الحرة”: “دائما التضخم يكون بمصلحة التجار والصناعيين والمستثمرين على حساب صغار الكسبة. لأن المسثتمر قد يرفع الأسعار بشكل مرن لكن الموظفين لهم رواتب وهي مرتبطة بأنظمة وقوانين”.

“عندما رفعوا الحد الأدنى للأجور إلى 11400 ليرة كان الدولار يساوي 18 ليرة. اليوم الدولار 26 وقد يصل لـ30”.

ويضيف شعبو: “أي قبل استلام الزيادة في الرواتب تآكلت، وهو أكبر دليل على أن المتضرر هو المستهلك”.

ولا يرى الباحث الاقتصادي أن “هناك مرونة في الأجور تتوازى مع التغير في الأسعار”، ويوضح أن “الفجوة بين الدخل والإنفاق باتت كبيرة، وأن الطبقة المتوسطة أصبحت تصغّر في تركيا”.

“خيار الصدمة”

ومن غير الواضح كيف سيتشكل المشهد الاقتصادي لتركيا في المرحلة المقبلة، ولاسيما مع الخطوات التي بدأها في الداخل والخارج الفريق الاقتصادي الجديد لإردوغان.

وكان الفريق قد فرض سياسة تقليدية جديدة تخالف التي سادت لسنوات، بعدما اتجه لرفع أسعار الفائدة في يونيو من 8.5 بالمئة إلى 15 بالمئة.

لكن، وعلى الرغم من الأصداء التي ولدها هذا الرفع، إلا أن الليرة التركية واصلت انخفاضها في سوق العملات الأجنبية، ومن ثم اتجهت الحكومة إلى زيادة الضرائب.

ويعتقد الباحث الناظر أن الخيار الوحيد للخروج من الأزمة الحاصلة في تركيا هو “العلاج بالصدمة”.

وترتبط هذه السياسة ببول فولكر رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمبركي في سبعينيات القرن الماضي، الذي يعتبر اسمه مرادفا عمليا لمحاربة التضخم بأي ثمن، حتى لو أدى إلى معاناة الاقتصاد بشكل ركود.

ويرى الناظر أن “ما يتم العمل عليها اقتصاديا في تركيا سيكون أثره طويل وربما يحتاج لعام ونصف”، متوقعا أن “يتم رفع ضرائب كبيرة في مرحلة ما بعد الانتخابات المحلية”.

وفي المقابل، ورغم أن القرارات والخطوات المتخذة تجعل الحياة في تركيا أكثر صعوبة، “إلا أنها ستحقق بعض النتائج الإيجابية على المدى القصير والمتوسط”، حسب ما تقول الكاتبة في صحيفة “حرييت”، هاندي فيرات، مضيفة أن “جزء مهم من القرارات المتخذة ستكون فعالة في تقليل عجز الحساب الجاري”.

– الحرة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى